الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
واعلم أنه يجب تأخير القصاص في الجراح حتى تندمل جراحة المجني عليه، فإن اقتص منه قبل الاندمال، ثم زاد جرحه، فلا شيء له.والدليل على ذلك، ما رواه الإمام أحمد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته، فجاء إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أقدني، فقال: «حتى تبرأ»، ثم جاء إليه، فقال: أقدني، فأقاده، فقال: يا رسول الله عرجت، فقال: «قد نهيتك قعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك»، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح قبل أن يبرأ صاحبه، تفرَّد به أحمد، قاله ابن كثير.وقال بعض العلماء بجواز تعجيل القصاص قبل البرء، وقد عرفت من حديث عمرو بن شعيب المذكور آنفًا، أن سراية الجناية بعد القصاص هدر، وقال أبو حنيفة، والشافعي: ليست هدرًا، بل هي مضمونة، والحديث حجة عليهما، رحمهما الله تعالى، ووجهه ظاهر، لأنه استعجل ما لم يكن له استعجاله، فأبطل الشارع حقه.وإذا عرفت مما ذكرنا تفصيل مفهوم.قوله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} الآية.فاعلم أن مفهوم قوله: {أَوْ فَسَادٍ في الأَرْضِ}، هو المذكور في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَادًا أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} [المائدة: 33].قال ابن كثير في تفسيره: المحاربة هي المخالفة والمضادة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض، يطلق على أنواع من الشر، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 205].فإذا علمت ذلك، فاعلم أن المحارب الذي يقطع الطريق، ويخيف السبيل، ذكر الله أن جزاءه واحدة من أربع خلالٍ هي: أن يقتلوا، أو يصلَّبوا، أو تقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض، وظاهر هذه الآية الكريمة: أن الإمام مخير فيها، يفعل ما شاء منها بالمحارب، كما هو مدلول، أو لأنها تدل على التخيير.ونظيره في القرآن قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، وقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكعبة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَامًا} [المائدة: 95].وكون الإمام مخيرًا بينهما مطلقًا من غير تفصيل، هو مذهب مالك، وبه قال سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والضحاك، كما نقله عنهم ابن جرير، وغيره، وهو رواية ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، ونقله القرطبي، عن أبي ثور، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي، ومالك، وقالك وهو مروي عن ابن عباس.ورجّح المالكية هذا القول بأن اللَّفظ فيه مستقل غير محتاج إلى تقدير محذوف، لأن اللفظ إذا دار بين الاستقلال، والافتقار إلى تقدير محذوف، فالاستقلال مقدم، لأنه هو الأصل، إلا بدليل منفصل على لزوم تقدير المحذوف، وإلى هذا أشار في «مراقي السعود» بقوله:
إلى قوله: والرواية المشهورة عن ابن عباسن أن هذه الآية منزلة على أحوال، وفيها قيود مقدرة، وإيضاحه: أن المعنى أن يقتلوا إذا قتلوا، ولم يأخذوا المال، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال ولم يقتلوا أحدًا، أو ينفوا من الأرض، إذا أخافوا السبيل، ولم يقتلوا أحدًا، ولم يأخذوا مالًا، وبهذا قال الشافعي، وأحمد، وأبو مجلز، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، والحسن، وقتادة، والسدي، وعطاء الخراساني، وغير واحد من السلف والأئمة.قاله ابن كثير، ونقله القرطبي، وابن جرير، عن ابن عباس، وأبي مجلز، وعطاء الخراساني، وغيرهم.ونقل القرطبي، عن أبي حنيفة، إذا قتل قُتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل، فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يده ورجله، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه، ولا يخفى أن الظاهر المتبادر من الآية، هو القول الأول. لأن الزيادة على ظاهر القرآن بقيود تحتاج إلى نص من كتاب، أو سنة، وتفسير الصحابي لهذا بذلك، ليس له حكم الرفع، لإمكان أن يكون عن اجتهاد منه، ولا نعلم أحدًا روى في تفسير هذه الآية بالقيود المذكورة، خبرًا مرفوعًا، إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره عن أنس، حدثنا علي بن سهل قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين إلى أن قال.قال أنس: «فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق، وأخاف السبيل، فاقطع يده بِسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل، واستحل الفرج الحرام، فاصلبه»، وهذا الحديث لو كان ثابتًا لكان قاطعًا للنزاع، ولكن فيه ابن لهيعة، ومعلوم أنه خلط بعد احتراق كتبه، ولا يحتج به، وهذا الحديث ليس راويه عنه ابن المبارك، ولا ابن وهب. لأن روايتهما عنه أعدل من رواية غيرهما، وابن جرير نفسه يرى عدم صحة هذا الحديث الذي ساقه، لأنه قال في سوقه للحديث المذكور: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر، وذلك ما حدثنا به علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، إلى آخر الإسناد الذي قدمنا آنفًا، وذكرنا معه محل الغرض من المتن، ولكن هذا الحديث، وإن كان ضعيفًا، فإنه يقوي هذا القول الذي عليه أكثر أهل العلم، ونسبه ابن كثير للجمهور.واعلم أن الصَّلب المذكور في قوله: {أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33]، اختلف فيه العلماء. فقيل: يصلب حيًا، ويمنع من الشراب، والطعام، حتى يموت، وقيل: يصلب حيًا، ثم يقتل برمح، ونحوه، مصلوبًا، وقيل: يقتل أولًا، ثم يصلب بعد القتل، وقيل: ينزل بعد ثلاثة أيام، وقيل: يترك حتى يسيل صديده، والظاهر أنه يصلب بعد القتل زمنًا يحصل فيه اشتهار ذلك. لأن صلبه ردع لغيره.وكذلك قوله: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33]، اختلف العلماء في المراد بالنفي فيه أيضًا، فقال بعضهم: معناه أن يطلبوا حتى يقدر عليهم، فيقام عليهم الحد، أو يهربوا من دار الإسلام، وهذا القول رواه ابن جرير، عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس.وقال آخرون: هو أن ينفوا من بلدهم إلى بلد آخر، أو يخرجهم السلطان، أو نائبه، من عمالته بالكلية، وقال عطاء الخراساني، وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والحسن، والزُّهري، والضحاك، ومقاتل بن حيان، إنهم ينفون، ولا يخرجون من أرض الإسلام.وذهب جماعة إلى أن المراد بالنفي في الآية السجن، لأنه نفي من سعة الدنيا إلى ضيق السجن، فصار المسجون كأنه منفي من الأرض، إلا من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض المسجونين في ذلك. وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، ولا يخفى عدم ظهوره.واختار ابن جرير، أن المراد بالنفي في هذه الآية، أن يخرج من بلده إلى بلد آخر، فيسجن فيه، وروي نحوه عن مالك أيضًا، وله اتجاه.لأن التغريب عن الأوطان نوع من العقوبة، كما يفعل بالزاني البكر، وهذا أقرب الأقوال، لظاهر الآية. لأنه من المعلوم إنه لا يراد نفيهم من جميع الأرض إلى السماء، فعلم أن المراد بالأرضِ أوطانهم التي تشقّ عليهم مفارقتها، والله تعالى أعلم.
|